يبدو أن النجاحات العديدة التي حققها حزب العدالة والتنمية التركي ذو الخلفية الإسلامية على الصعيدين الداخلي والخارجي لن تنقذه من حملة طويلة من التحرشات السياسية سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
فعلى إثر الهدوء النسبي الذي ساد العلاقة بين حكومة حزب العدالة والجيش التركي على خلفية إحالة عدد من كبار الضباط السابقين إلى التحقيق بتهمة الضلوع في مؤامرة لقلب نظام الحكم والإطاحة بحزب العدالة والتنمية، كانت تركيا على موعد مع أزمة سياسية أخرى على صعيد العلاقات الخارجية؛ فقد صادقت لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي على مشروع قرار يعتبر مقتل الأرمن على أيدي الأتراك العثمانيين في أعوام 1915 و1916 و1917 أثناء الحرب العالمية الأولى جريمة "إبادة جماعية".
ويدعو النص غير الملزِم، الصادر بأغلبية 23 صوتًا مقابل 22 صوتًا معترضًا، الرئيس الأمريكي إلى "وصف التصفية المنهجية والمتعمَّدة لمليون و500 ألف أرمني في تركيا العثمانية بشكل دقيق بأنها إبادة جماعية".
رد الفعل التركي على قرار الإدانة
ظلَّت الحكومة التركية على مدار الأيام التي سبقت استصدار القرار تحذِّر وبشدة من مغبَّة إصداره وانعكاساته السيئة على العلاقات البينية بين الطرفين؛ فقد دعا الرئيس التركي عبد الله جول نظيره الأمريكي باراك أوباما إلى التدخل لمنع اللجنة من اعتماد هذا القرار.
وقالت صحيفة "حريت" التركية الواسعة الانتشار: إن جول حذَّر أوباما من تداعيات تبنِّي هذا القرار على علاقات البلدين.
وعلى إثر صدور قرار لجنة الشئون الخارجية بالكونجرس ردت الحكومة التركية بنفس القوة التي ميزت قراراتها في الفترة الأخيرة خاصة فيما يمسُّ الهيبة التركية أو ينتقص منها.
فقد قالت تركيا: إنها استدعت سفيرها لدى واشنطن للتشاور، بعدما وصفت لجنة في الكونجرس الأمريكي قتل القوات التركية للأرمن في الحرب العالمية الثانية بأنه "إبادة جماعية" رغم اعتراض البيت الأبيض على القرار.
وقال بيان عن الحكومة التركية: إن السفير التركي لدى الولايات المتحدة نامق تان استُدعي على الفور.
وقالت رئاسة الحكومة التركية في بيان وزعته على وسائل الإعلام في أنقرة: "إننا ندين هذا القرار الذي يتهم تركيا بجريمة لم ترتكبْها، وقد تم استدعاء سفيرنا لدى واشنطن نامق تان إلى أنقرة للتشاور بعد هذا التطور".
وأضافت: "لدينا مخاوف جدية من أن يعود هذا القرار بالضرر على العلاقات التركية -الأمريكيَّة ويكبح جهود تطبيع العلاقات التركية –الأرمنية"، وكرَّرت مطالبتها بأن يتولى مؤرخون دراسة ما حدث للأرمن في السلطنة العثمانية، قائلة: "إن تدخل السياسيين في مجال عمل المؤرخين يترك دائمًا آثارًا سلبية".
وقال الرئيس التركي عبد الله جول لصحفيين في أنقرة – ملمحًا إلى احتمالية تدهور العلاقة بين الدولتين: "إن مشروع القرار هذا ليست له أي قيمة في نظر الشعب التركي، وتركيا ليست مسئولة عن أي نتائج سلبية قد تنجم عنه في كل المجالات".
وقال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في تصريح صحفي: "إن العلاقات التركية -الأمريكيَّة تمرُّ بأكثر الفترات نجاحًا في تاريخها، وآمل ألا تتضرر بمثل هذه المبادرات".
وقال رئيس البرلمان التركي محمد علي شاهين في تصريح مماثل: "نتوقع ونأمل أن يصحح الكونجرس الأمريكي هذا الخطأ التاريخي قريبًا.
وقال وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو خلال مؤتمر صحفي عقده في أنقرة: "إن تبني لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب هذا القرار يثبت أن الإدارة الأمريكيَّة لم تتدخل بشكلٍ كافٍ لمنعه وتركيا منزعجة للغاية من ذلك".
وأضاف: "ننتظر من الإدارة الأمريكيَّة أن تبذل من الآن جهودًا أكثر فاعلية لمنع التصويت"، وأضاف: "نأمل ألا تتعرض العلاقات التركية -الأمريكيَّة لاختبار جديد”، وتابع: "إنها مسألة كرامة وطنية ليس من حق برلمانات (دول أخرى) الحكم على تاريخنا، فتركيا قادرة على التعامل مع هذه القضايا وحدها".
وبموازاة ذلك فقد رأت أذربيجان حليفة تركيا، أن مشروع القرار يزعزع الاستقرار في المنطقة والجهود الرامية إلى حل قضية إقليم ناجورنو قرة باخ الأذربيجاني ذي الأغلبية الأرمينية الذي تحتله أرمينيا منذ عام 1993.
وقال البرلمان الأذربيجاني في بيان أصدره في باكو: "إن تبني القرار يضرُّ بالجهود الرامية إلى إعادة السلام والاستقرار إلى المنطقة، وقد يقلِّص جميع الجهود السابقة لحل مشكلة ناجورنو قرة باخ إلى الصفر.
أمريكا والرقص على الأجناب
حاولت الإدارة الأمريكية أن تتخذ لنفسها موقفًا وسطًا بين الطرفين، وأن تحتفظ بمسافة بين الجانبين بما يؤدي إلى الاحتفاظ بعلاقتها المتميزة مع الجانب التركي، كما أنه يمكِّنها من ممارسة الضغوط المناسبة على الجانب التركي للاحتفاظ بالعلاقات المتميزة السابقة مع الجانب الإسرائيلي، ومساعدة الجانب الأمريكي في مهامه الإقليمية الهامة في المرحلة المقبلة، وخاصة على صعيد الأزمة النووية الإيرانية.
فمن المعلوم أن أبرز المتعاطفين علانيةً مع وجهة النظر الأرمينية فيما يخص أحداث عام 1915 في واشنطن هم الرئيس باراك أوباما نفسه ونائبه جو بايدن ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون.
ويذكر أن أوباما تعهد خلال حملته الانتخابية بالاعتراف بما يسمى "الإبادة الأرمينية" التي أقرَّها عدد من برلمانات العالم، لكنه تفادى استخدام هذا الوصف في خطابه العام الماضي بهذه المناسبة.
وكرَّر أوباما خلال زيارته إلى تركيا في شهر إبريل الماضي موقفه وقال: إنه ما زال يعتبر ما تعرَّض له الأرمن يصل إلى مستوى الإبادة، لكنه أشار إلى أن تطبيع العلاقات بين أرمينيا وتركيا له الأولوية.
والجدير بالذكر أنه عندما وافقت لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب على القرار ذاته عام 2007، فإن إدارة الرئيس جورج بوش سارعت إلى إعلان أن القرار ليس الطريقة الصحيحة للتعامل مع القضية.
وكذلك عملت الإدارة الأمريكية آنذاك على عدم عرض القضية على عموم مجلس النواب.
وعلى الخط ذاته تدخَّلت أوساط الصناعات العسكرية الأمريكية التي تعتبر تركيا سوقًا كبيرة لمنتجاتها لصالح تركيا، ودعت الكونجرس إلى عدم تبني القرار.
وحذَّر مسئولون في كل من شركة لوكهيد مارتن وبوينج وريثيون ونورثورن جرومان من تبني هذا القرار.
وجاء في بيان مشترك غير اعتيادي أصدرته هذه الشركات: إن مثل هذا القرار سوف يؤدي إلى "جفاء في علاقات بلادنا بعضو بارز في حلف شمال الأطلسي وإلحاق الضرر بالمصالح الجيو- سياسية للولايات المتحدة، وسيكون له آثار سلبية على الجهود الرامية إلى تعزيز الصادرات الأمريكية والحد من البطالة".
وأشار البيان إلى أن قيمة الصادرات الأمريكية العسكرية والجوية إلى تركيا تجاوزت 9 مليارات دولار خلال عام 2009.
السويد على خط الإدانة
ومن ناحية أخرى فقد دخلت السويد على خط الإدانة للمذابح التركية المزعومة في حق الأرمن، وهو الأمر الذي قد يفتح الباب على مصراعيه لانضمام دول أوروبية أخرى إلى حلف الإدانة.
وكان البرلمان السويدي قد اعتمد قبل أيام مشروع قرار -خلافًا لرأي الحكومة- يعترف بالمجازر التي ارتُكبت بحق الأرمن عام 1915 بأنها إبادة.
وأوضح بيان البرلمان أن النصَّ الذي طرحته المعارضة اليسارية وأُقرَّ بغالبية صوت واحد يعني أن السويد تعترف بإبادة عام 1915 بحق الأرمن والمجموعات الاثنية الأخرى في ظل الإمبراطورية العثمانية.
ولم يكن القرار السويدي هو الأول من نوعه، فقد أقرَّت الجمعية الوطنية الفرنسية في أكتوبر عام 2006 قانونًا يصف رفض واقع الإبادة الجماعية للأرمن بأنه جريمة جنائية.
وقد سنَّ الاتحاد الأوروبي قانونًا يحظر التحريض على رفض واقع الإبادة الجماعية، سواء أكانت محرقة لليهود أو إبادة جماعية للأرمن.
وفي ردّ فعلها على القرار السويدي قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان: إنه قد استدعى السفير التركي في ستوكهولم احتجاجًا على قرار البرلمان السويدي وصف ما ارتُكب بحق الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى بتعبير "إبادة".
وقال أردوغان في بيان له نُشر على موقعه: ندين بقوة هذا القرار، الذي اتخذ لحسابات سياسية، ولا يستجيب للصداقة القوية بين البلدين، لقد استدعينا سفيرنا للتشاور.
وأضاف البيان: لقد ألغينا القمة التركية- السويدية المقررة في السابع عشر من شهر مارس الجاري.
من القطيعة إلى الوصال
تقول الرواية الأرمينية: إن يوم الرابع والعشرين من إبريل عام 1915م هو البداية الرسمية لإبادة الأرمن الجماعية، حين أمر الحكام الأتراك الشباب، وبينهم الزعماء الثلاثة طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا أمروا بجمع المثقفين الأرمن كلهم في إسطنبول وتهجيرهم إلى خارج البلاد.
وتزعم الرواية الأرمينية أنه قد قُتل الكثير منهم في اليوم نفسه، وأدت تلك الخطوات إلى القضاء على جيل كامل من أبرز ممثلي الثقافة الأرمينية، وأنه قد لقي ما يقرب من مليون ونصف مليون أرمني خلال الأيام الثلاثة التالية مصرعهم، وتم تهجير الباقي من الأرمن الأتراك إلى بلاد الرافدين ولبنان وسوريا، وذلك عبر مناطق صحراوية، حيث هلك أغلبهم جراء المجاعة والأمراض، وتم الفصل بين النساء والأطفال من جهة والرجال من جهة أخرى، وأن الرجال قد تم القضاء عليهم قضاءً تامًّا، وتم توجيه النساء للمتاجرة بهن في أسواق النخاسة، وتقول الرواية ذاتها: إن عمليات الإبادة استمرت حتى بعد استيلاء كمال أتاتورك على الحكم في تركيا.
ومن جانبها لا تعترف الجمهورية التركية وعلم التاريخ التركي الرسمي بأن السكان الأرمن في الإمبراطورية العثمانية تم قتلهم قصدًا.
ويبرِّر الأتراك أعمالهم بأن إجلاء الأرمن كان إجراءً دفاعيًّا اضطراريًّا قضت به ظروف الحرب العالمية الأولى، التي دخلت تركيا فيها عام 1914 وكانت تجابه حينذاك روسيا، أما الأرمن فكان من المعتقد أنهم بمثابة طابور خامس للإمبراطورية الروسية، وأنهم كانوا يعدُّون لانتفاضة في مؤخرة القوات التركية، على أن يقوموا بمساندة الجيش الروسي عند تقدمه في الأراضي التركية، كما أن الرواية التركية ترى أن عدد الضحايا كان أقل بكثير مما يشير إليه الأرمن، وأن ممثلي الجاليات الأرمنية الكثيرة السكان في إسطنبول وحلب وأزمير لم يتعرضوا للقتل خلال تهجيرهم، وبقي الكثير من المهجرين على قيد الحياة.
ويُشار في هذا السياق إلى أن هناك قانونًا تركيًّا يمنع توجيه الإهانات إلى الأمة التركية، قد استغل لمحاكمة كل من يشيرون إلى أحداث 1915 على أنها إبادة جماعية.
وبذلت الولايات المتحدة جهودًا مضنية في الأعوام السابقة لتطبيع العلاقات بين الدولتين، وهو الأمر الذي تحقق في زيورخ 2009 عندما وقع الطرفان على معاهدة ثنائية لإعادة تطبيع العلاقات وتبادل السفراء وفتح الحدود بين البلدين، والتي أغلقت في عام 1993م عقب استيلاء أرمينيا على إقليم ناجورنو قرة باخ ذي الأغلبية الأرمينية في أذربيجان.
وقد اعتبرت المحكمة الدستورية الأرمينية أن بروتوكولي الاتفاق الموقعين آنذاك واللذين ينصان على إقامة علاقات دبلوماسية وفتح الحدود بين الجانين يتفقان والدستور.
لكنها شددت في الوقت ذاته على أنه لا يجوز أن يناقضا مادة في إعلان استقلال أرمينيا تشير إلى "إبادة 1915" وهي عبارة ترفضها تركيا.
وقال أردوغان: إن تفسير المحكمة الأرمينية "لن يُقبل به أبدًا... ينبغي تصحيح الوضع، وإلا فسيضر بعملية المصالحة".
ويخشى كثير من المراقبين أن يؤثر القرار الأمريكي ونظيره السويدي على إتمام تنفيذ الاتفاقية التركية– الأرمينية، والتي لم تخرج إلى حيز التنفيذ بعد وتنتظر موافقة البرلمان في الدولتين.
وهكذا فإن تركيا قد وجدت نفسها بين عشية وضحاها وقد حشرت بين المطرقة الأمريكية والسندان الأوروبي؛ تسديدًا لفواتير مواقف إيجابية وقفتها حكومة حزب العدالة تجاه القضايا الإقليمية الهامة كالحرب على العراق وحصار غزة ومحاولة ضرب إيران
0 commentaires:
Post a Comment